بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار الأبرار الميامين أجمعين، وبعد،
فإن مسألة وجوب دفع خمس أرباح المكاسب والتجارات والصناعات والزراعات وغيرها من المكاسب.. من المسائل التي اختص بها فقه المذهب الإمامي الاثني عشري وفارق بها سائر المذاهب الإسلامية حتى الشيعية منها كالزيدية والإسماعيلية، وهي مسألة هامة وذات آثار كبيرة، وقد اختلفت فيها أنظار الإمامية منذ القديم فذهب بعض كبار فقهاء الإمامية القدماء – مثل الشيخ «ابن جنيد الإسكافي» (381هـ) والشيخ «ابن أبي عقيل العماني» (القرن الرابع الهجري)، والشيخ «سلار الديلمي» (463هـ) -، وبعض المتأخرين - مثل المحقق السبزواري (1090هـ) والشيخ عبد الله بن صالح البحراني (1135هـ)- إلى سقوط «الخُمُس» كلياً في العصور التي تلت عصر الأئمة من آل الرسول – والتي يطلق عليها لدى الإمامية تعبير عصر الغيبة -، فيما ذهب فقهاء الإمامية الآخرون مذاهب شتى فيه فمنهم من أسقط نصفه أي سهم الإمام منه في عصـر الغيبة وأبقى النصف الآخر أي سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل من بني هاشم، ومنهم من أفتى بعزل سهم الإمام وإبقائه والوصية به لشخص أمين وهكذا حتى ظهور الإمام المهدي! بل منهم من قال بدفنه أو رميه في البحر إلى حين ظهور الإمام المهدي!! هذا في حين ذهب معظم المتأخرين إلى إعطائه كاملاً للمراجع المجتهدين.
فما هي قصة هذا الخمس وما أصلها؟ ومتى بدأ أخذه؟ وهل له مستند شرعي في الكتاب والسنة؟ وما مدى صحة الأخبار المنسوبة إلى الأئمة من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأنه؟ وهل في الإسلام فعلاً تمييزٌ لأسرة أو نسب معين – مثل ذرية بني هاشم أو ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على سائر المسلمين بحق ماليٍّ؟ وهل في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسيرة علي بن أبي طالب عليه السلام ما يشهد لمثل هذا الخمس الذي يتحدثون عنه؟ وإن لم يكن كذلك فمن وضع هذه الفكرة؟ ولماذا وكيف؟
هذه أسئلة هامة ربما تدور في خلد كثير من المسلمين بل من الشيعة أنفسهم وتبحث عن جواب شافٍ، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا قد أجاب عنها كلها إجابةً شافيةً وافيةً، حث قام مؤلفه الأستاذ الفاضل المرحوم «حيدر علي قلمداران» القمّي (1411هـ) المعروف بأفكاره التصحيحية الإصلاحية ونقده الذاتي الجريء والمخلص لكل ما يراه من أخطاء أو بدع أو انحرافات لدى المسلمين في بلاده في العقائد أو الفقه، ببحث هذا الموضوع بحثاً شافياً وهو فيما أعلم أول من بحث هذا الموضوع بهذا الاتساع والتحليل الجذري للمسألة وبذل جهداً مضنياً في تتبع أصلها وفي بيان الشواهد القرآنية والتاريخية على عدم وجود أثر لمثل هذا الأمر زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، ودرس الأحاديث المنسوبة لآل الرسول في هذا الصدد سنداً ومتناً وبيَّن تهافتها جميعاً، وقد أبدع في ذلك، ووضع نتيجة بحثه في كتابه هذا (بلغته الفارسية بالطبع) الذي أسماه «بحث عميق في مسألة الخمس في الكتاب والسنة» ونشره عام 1388هـ (= 1968م)، وبالطبع أثار الكتابُ عليه المتعصبين من فقهاء زمانه فرد عليه بعضهم في رسائل خاصة فأجاب عن تلك الردود جميعاً.
هذا وقد طُبع كتابه بالفارسية مرةً ثانيةً وكانت الطبعة مليئة بالأخطاء الطباعية، وتفتقر إلى المزيد من العناوين التوضيحية والتوثيق اللازم لجميع الاقتباسات، لذا قمنا بترجمته إلى العربية في هذا الكتاب الذي بين يديك، وخدمناه بعون الله وتوفيقه بتصحيح تصحيفاته وتوثيق اقتباساته وشرح غريبه وترجمة أعلامه ووضع بعض العناوين التوضيحية الإضافية له، فجاء بهذا الثوب القشيب المتكامل ليكون ميسوراً في أيدي الباحثين والقارئين المتَطَلِّعِين إلى معرفة الحقيقة واتباع الكتاب والسنة الصحيحة، نسأل الله تعالى أن ينفع به إنه ولي التوفيق والقادر عليه.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن هذا الكتاب جاء تتميماً لكتاب سبقه ألفه مؤلفه حول موضوع الزكاة نقد فيه المشهور في مذهب الإمامية من حصـر الزكاة في الأجناس التسعة مع تحديد شروط عديدة لوجوبها مما أسقط أهميتها في عصورنا الحالية، وأثبت فيه وجوب الزكاة في مطلق النقد (بما في ذلك العملات المتداول بها حالياً ولو لم تكن من الذهب أو الفضة)، وفي جميع الغلات والحبوب والثمار الزراعية وفي مال التجارة، وقد أحال كثيراً في كتابه الحالي حول الخمس إلى كتابه السابق حول الزكاة.
ولا بد لنا هنا في ختام المقدمة من نبذة سريعة عن مؤلفه:
ولد المرحوم حيدر علي بن إسماعيل قلمداران في قرية "ديزيجان" من أعمال مدينة قـم في إيران سنة 1913م، وبدأ دراسته بتعلم القرآن الكريم في كتَّاب القرية، وكان كثير الشغف بالقراءة والبحث ومطالعة الكتب الإسلامية منذ صغره، وما لبث - وهو في ريعان الشباب - أن قرض الشعر وأصبح كاتباً في عدد من المجلات التي كانت تصدر في عصره في قم وطهران، وعمل في سلك التدريس في مدارس مدينة قم، وكان يسخِّر قلمه لكتابة المقالات الإسلامية التي يدافع فيها عن تعاليم الدين الحنيف، ويردّ على مخالفي الإسلام، ويدعو لإصلاح الأوضاع وإيقاظ همم المسلمين. تأثّر المؤلف كثيراً بالمرجع الشيعي المصلح آيـة اللـه الشيـخ محمد مهدي الخالصي (رحمه الله) وقام بترجمة أغلب كتبه إلى الفارسية، لكنه تجاوز شيخه الخالصي بخطوات أكثر انفتاحاً وخرج عن إجماع الإماميّة في بعض المسائل كَنَفْيِهِ وجوب أداء خمس المكاسب والأرباح، وقوله بأن الأئمة الاثني عشر ليس منصوصاً عليهم من قبل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هم علماء ربانيون وفقهاء مجتهدون فحسب، وأفضل أهل عصرهم وأولاهم بالاتباع، وألف في هذا الموضوع كتابه الشهير «طريق الاتحاد» وقد تعرض بعد نشره إلى محاولة اغتيال فاشلة من بعض المتعصبين الغلاة. كما قال قلمداران بأنه لا ثبوت لإمامٍ غائبٍ مستترٍ إلى الآن ولا رجعة ولا عصمة مطلقة لأحد إلا عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالات ربه، ورأى كذلك، من خلال دراسته لتاريخ زيارة القبور في الإسلام، عدم صحة نصب القباب وإقامة الأضرحة على قبور الصالحين سواء من أئمة آل البيت أو أولادهم وجعلها مزارات يحج لها الناس ويطوفون بها داعين مستغيثين ورأى ذلك من مظاهر الشرك في العبادة، وألف في ذلك كتابه «بحث حول زيارة المزارات»، وهو الجزء الخامس من كتاب شامل ألفه في الرد على الغلو والغلاة سماه "راه نجات از شر غلاة " أي: طريق النجاة من شر الغلاة.
ومن أهم كتبه الأخرى التي كان لها أثر وفائدة كثيرة في عصره، ولا يزال الباحثون يستفيدون منها: «شاهراه اتحاد يا بررسى نصوص امامت» أي (طريق الاتحاد أو دراسة وتمحيص روايات النصّ على الأئمة) الذي فند فيه عقيدة النصّ الإلهي والنبوي على عَليٍّ والأئمة خلفاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكم المسلمين، وقد ترجمناه إلى العربية، و«أرمغان إلهي» أي: الهدية الإلهية، وهو ترجمة للفارسية لكتاب «الجمعة» للعلامة الخالصي (رحمه الله) الذي بين فيه الوجوب العيني لصلاة الجمعة في كل العصور خلافاً لفتوى القائلين بوجوبها التخييري في عصر الغيبة. و«حكومتِ اِسلامي» أي: الحكومة الإسلامية، في مجلدين، وهو من أهم كتب المؤلف، وكان سبَّاقًا لهذا الموضوع في عصره.
تُوُفِّي الأستاذ قلمداران عام 1989م، عن عمر ناهز السادسة والسبعين، أفاد فيه المسلمين بدراساته وتحقيقاته القيِّمة فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والحمد لله أولاً وآخراً.
المترجم
ملاحظة أخيرة: ميزتُ حواشيّي عن حواشي المؤلف بتذييل حواشيي بكلمة (المترجِم).